الانتخابات الرئاسيّة ولعبة الاستقطاب الثنائي
- partielkadihines
- 18 janv. 2015
- 7 min de lecture
أسفرت الانتخابات الرئاسيّة التي جرت في 23-11-2014 عن نتائج منتظرة مرّ عبرها كل من الباجي قائد السبسي ومحمد المنصف المرزوقي للدور الثاني ليتواصل الصراع على السلطة على أشدّه ويدفع بأغلب القوى اليمينية والانتهازية إلى الاصطفاف وراء هذا الطرف أو ذاك وتقديمه على أنّه الأصلح للرئاسة. فهل المطروح على الجماهير الشعبيّة اليوم دعم طرف من هذه الأطراف عبر المشاركة في الانتخابات أم مقاطعتها؟
لقد أفرز لنا الدور الأوّل لانتخابات الرئاسة تواصل الصراع بين الأطراف الرجعية على كرسي قرطاج، وإذا كان الباجي قائد السبسي مرشحا لليمين الليبرالي فإنّ محمد المنصف المرزوقي هو مرشح اليمين الديني رغم ما يحاول مريدوه من إضفاء صفة "الديمقراطي" و "الحقوقي" على شخصه. لقد كشفت الحرب المستعرة بينهما هذه الأيام كمقدمة لحملاتهما الانتخابية عن إفلاسهما وبالتالي إفلاس هاذين الخيارين الذي سيكون حتما أحد طرفيه رئيسا. كما عبّرت عن بؤسهما وعدم قدرتهما على إقناع الجماهير الشعبية ببرامجهما سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية أو السياسيّة لأنّ ما يقترحانه من برامج لا تستجيب في شيء لتطلعات هذه الجماهير التي رفض معظمها المشاركة في الانتخابات المسرحيّة بل قاطعها (حوالي 05 ملايين مقاطع من جملة ثمانية ملايين لهم الحق في التصويت). ولتغطية فشلهما في ذلك عمد كل طرف منهما إلى محاولة تقزيم الآخر واللعب على أوتار النعرات القبلية والجهويّة لجرّ هذا الطيف أو ذاك إلى صفّه.
لقد كشفت الحملات الانتخابيّة للسبسي والمرزوقي عن حقيقتهما التي حاول كل طرف منهما إخفاءها بمساحيق عديدة من نوع الحقوقي أو الديمقراطي أو الحداثي وغيرها من المصطلحات المبهمة وغير الدّقيقة والتي تفتح الأبواب على مصراعيها لعدّة تأويلات .
كما كشفت أيضا عن حقيقة هذين المرشحين وعن وجههما البشع الذي لا يعترف إلاّ بالمصالح الشخصيّة وحتّى المصالح الحزبيّة فقد ألقوا بها جانبا ناهيك عن مصالح الجماهير الشعبيّة. لقد أعادت خطاباتهما وتصريحاتهما إلى الأذهان تلك النعرات الجهويّة والعروشيّة وهي نعرات من شأنها تقسيم الكادحين وضرب وحدتهم الطبقية وحرفهم عن طريقهم الصحيح في النضال.
إنّ المرزوقي الذي يتمّ تقديمه على أنّه الحقوقي الذي يدافع عن القضايا العادلة وينتصر لحقوق الإنسان وهو الديمقراطي جدا جدا والذي يحترم إرادة الشعب يثبت لنا يوميّا ومن خلاله تصرفاته وخاصة طيلة سنواته في الرئاسة بأنّه نزع عنه تلك الجبّة التي كان يختفي تحتها ليكشف لنا عن وجهه الحقيقي الذي لا يمتّ بصلة إلى صفة الحقوقي التي يحاول مريدوه إلصاقها به لأنّه ببساطة ورغم اضطلاعه بمهام الرئيس لم يحرّك ساكنا تجاه ما اقترفته قوّات البوليس من قمع للعديد من التحركات ذات البعد المطلبي والاجتماعي التي تمّت في العديد من القرى والأرياف المهمّشة (مطالب مرتبطة بتوفير الماء الصالح للشرب أو الكهرباء أو المسالك الفلاحية أو تحسين وترميم بعض المدارس الآيلة للسقوط أو المعزولة...) وهي من أبسط المطالب المرتبطة بحقوق الإنسان في العيش الكريم، إلى جانب التحركات المطالبة بالشغل خاصة في المدن وهي مطالب جوبهت أغلبها بسياسة القمع والترهيب واقتحام المحلات السكنية عنوة واعتقال الشباب والزج بهم في السجون. فهل تصح صفة الحقوقي على رئيس جابه بوليسه بعض المطالب المشروعة التي لا تتعدى المطالبة بتوفير الماء الصالح للشرب بسياسة العصا الغليظة ولم يكلف نفسه درء شبح العطش عن العديد من القرى والتجمعات السكنية الريفية أو توفير مسالك فلاحية من شأنها تيسير تنقل المهمشين أو ترميم بعض المدارس وتوفير المرافق الصحيّة لها لتحسين ظروف الدراسة لأبناء الفقراء؟
كما أنّ هذا الحقوقي لم يحرّك ساكنا حين نزلت عناصر روابط الثورة إلى الشارع يوم 09-04-2012 وانضمّت لقوّات البوليس لقمع المتظاهرين تحت أنظار الصحافة المرئيّة والمكتوبة العالمية منها والمحليّة. كما أنّ هذا "الحقوقي" المفترض لم يحرّك ساكنا أيضا حينما أمطر بوليس علي لعريض أبناء سليانة في 29-11-2012 بزخّات من الرش لا لشيء سوى خروجهم في احتجاجات على سياسة التهميش التي تنتهجها السلطة تجاههم، فكانت الحصيلة ثقيلة جدّا إذ تضرر أكثر من 300 محتج فقد البعض منهم بصره بصفة كلية والبعض الآخر بصفة جزئيّة إلى جانب التشوهات التي بقيت محفورة في أجساد البعض الآخر لتؤرّخ للقمع والقهر الذي طال الجماهير إبّان حكم هذا "الحقوقي" الذي لم يقم بما يمليه عليه واجبه تجاه شهداء وجرحى الانتفاضة الذين بقي الأحياء منهم يتجرّعون المرارة وفيهم من دفع به اليأس إلى الانتحار. مقابل هذا نرى هذا "الحقوقي" لا ينتصر إلاّ للقوى الظلاميّة صنيعة الإمبرياليّة العالمية والرجعيّة العربية، هذه القوى التي أوكلت لها مهمة تأجيج الصراعات الطائفيّة والدينيّة داخل الوطن العربي لمزيد تفتيته حتّى تتمكّن القوى الاستعماريّة من مزيد إحكام سيطرتها على الشعب العربي ونهب ثرواته (سوريا، العراق، اليمن وليبيا على سبيل المثال...). كما استقبل العديد من شيوخ الفتنة بالقصر الرئاسي ووصل به الأمر إلى إرسال بعض مستشاريه لاستقبالهم بالقاعة الشرفية بالمطار، إضافة لاستضافته لكل رموز التيار التكفيري داخل القطر من ذلك العناصر التابعة لـ"أنصار الشريعة " وكذلك حمايته لعناصر روابط حماية الثورة التي أثبتت بعض المعطيات بكونها تلقى الدعم والحماية من حزب هذا "الحقوقي".
تلك هي البعض من ممارساته والتي لا تلتقي في شيء مع هذه الصفة التي تتطلب بالأساس الوقوف إلى جانب القضايا العادلة وإلى جانب المظلومين والمقهورين والتضامن معهم ومع تحركاتهم واحتجاجاتهم دفاعا عن حقوقهم المشروعة لا التصدي لهم بقوّة الحديد والنار أو عبر ميليشيات دمويّة.
أمّا ديمقراطيته المزعومة فتتمثّل في سعيه بكل الطرق حتّى المشبوهة منها للحفاظ على كرسيّ الرئاسة بدءا باصطفافه إلى جانب حركة النهضة والتي تمثل اليمين الديني المعبر عن علاقات الإنتاج الإقطاعيّة التي لا تعترف بالديمقراطيّة حتّى في مفهومها البرجوازي رغم المساحيق التي تحاول من خلالها إخفاء وجهها الحقيقي، إضافة لتكوين الميليشيات لإخماد أصوات معارضيه، كإقامة علاقات متينة بالعناصر التكفيرية التي أعلنت مرارا وبصفة علنيّة بأنّ الديمقراطية كفر. لقد وقف هذا "الديمقراطي" ضدّ إرادة الجماهير الشعبية التي سعت للإطاحة بالحكومة والبرلمان معتبرا ذلك محاولة انقلابية منهم على "الشرعيّة" رافضا الانخراط في ما سُمّي الحوار الوطني الذي ساهم بدوره في ترميم صفوف النظام المتداعية بتعلّة البحث عن حلّ للأزمة المستفحلة التي نتجت عن حكم الترويكا. لقد حاول بكل الطرق المحافظة على كرسيّه ضاربا عرض الحائط بالانتخابات والدستور ومقترحا عوض ذلك إيجاد حلول كفيلة ببقائه بمنصبه، بل إنّه ومن خلال الحوار الذي أجرته معه قناة فرنسا 24 الناطقة بالعربية إثر الانتخابات الرئاسية في دورها الأول بوّأ نفسه بديلا عن الشعب مقترحا حلاّ يبقيه في الرئاسة مع تمكين نداء تونس من رئاسة الحكومة وإسناد رئاسة المجلس لحركة النهضة وبذلك فوّض نفسه لتقسيم الغنيمة دون الحاجة إلى الانتخابات.
أمّا الطرف الثاني والذي يقدّم نفسه على أنّه "حداثي" و"ضامن لهيبة الدولة" والذي تجلبب بجلباب بورقيبة وأصبح مثله الأعلى مقلّدا حركاته وسكناته وكأنّه بمثل هذه الحركات البهلوانيّة في بعض الحالات سيحيي عظام بورقيبة وهي رميم ظنّا منه وأنّ الجماهير الشعبيّة قد غفرت له كلّ الجرائم التي ارتكبها في حقّها بدء بصفقة الخيانة التي سميت زورا استقلالا (20 مارس 1956) مرورا بالعديد من المحاكمات الجائرة التي طالت العديد من معارضي سياسته اللاوطنيّة واللاشعبيّة واللاديمقراطيّة خاصّة مناضلي الحركة الطلابية وصولا إلى التصدي للانتفاضات الشعبية بقوّة السلاح (جانفي 1978 و1984) والإمعان في قتل المحتجين والزج بالعديد منهم بالسجون المظلمة مع السعي الحثيث لتدجين الحركة العمالية والطلابية والتعريج على الإعدامات التي طالت القوميين سنة 1980، إضافة للمحاكمات السياسية التي طالت اليسار واليوسفيين والقوميين. فالبــاجي الذي يعـد بإرجاع "هيبة الدولة" لا يعني بذلك سوى استرجاع أسلوب العصا الغليظة التي تنتهجها السلطة الحاكمة تجاه الشعب أي ممارسة القمع كشكل رئيسي للتصدي للاحتجاجات، فهيبة الدولة في مفهومه لا تتعدى زرع الخــوف من جديد في صفوف الجماهير حتى تتمكن أجهزة الدولة القمعية من السيطرة عليها والحد من تحركاتها واحتجاجاتها لتوفير المناخ الملائم لتمرير كل المشاريع المعادية لمصالح هذه الجماهير. هذه الجماهير التي حاولت منذ انتفاضة 17-12-2010 التخلص ولو بصفة تدريجية من الخوف الذي كان يكبّل ردود فعلها وأصبح بإمكانها التصدي لكل السياسات التي لا تتماشى ومصالحها.
يدرك الباجي بأنّ السنوات الخمس القادمة ستكون صعبة لأنّها تحمل في طيّاتها العديد من الإجراءات التي لا تتماشى وتطلعات الكادحين، هذه الإجراءات التي تفرضها صناديق النهب الدوليّة مثل رفع الدعم والترفيع في سنّ التقاعد ممّا ينذر بهبّات جماهيريّة قادمة من شأنها زعزعة السلطة الحاكمة.
إنّ خوف المترشحين للرئاسة ومن ورائهما حلفائهما الإمبرياليين، يعلمون جيّدا وأنّ الجماهير الشعبيّة أصبحت عصيّة عليهم ولا يمكنهم السيطرة عليها بكل سهولة إن اتحدت وتضامنت وتراصّت صفوفها للدفاع عن مطالبها وحقوقها المشروعة ممّا دفعهما للبحث عن طرق وآليّات للسيطرة عليها مستقبلا وقد وجداها في زرع الصراعات والخلافات الوهميّة داخل صفوفها لتشتيتها عبر إذكاء النعرات الجهويّة والعشائريّة وتقسيم القطر إلى أجزاء متنافرة وهو أسلوب غالبا ما اعتمدته القوى الرجعيّة لضرب وحدة الجماهير وإجبارها على الاصطفاف غصبا وراء أحد المترشحين اللّذيْن نجحا في ذلك ولو مؤقّتا، فعندما تخرج بعض المظاهرات في عدّة مدن خاصّة بالجنوب للتنديد بتصريح هذا المترشح للرئاسة أو ذاك ، نتيقّن وأنّ هذا الجزء من الجماهير الذي سيطرت عليه الأطراف الرجعية قد أغمض عينيه عن مشاغله اليوميّه وعن وضعه البائس نتيجة للسياسة التي سلكتها السلطة الحاكمة والتي أدّت إلى مزيد تفقيرها وتهميشها والدفع بها للاصطفاف وراء هذا الطرف أو ذاك رغم أنّهما لا يختلفان في حقيقة أمرهما عن بعضهما لأنهما يمثلان بعض البدائل الإمبريالية التي يتمّ التسويق لها عبر بعض الوصفات الجاهزة، فاليمين سواء الليبرالي منه أو الديني لن يكون يوما ما ديمقراطيّا ولا حداثيّا ولا مدافعا عن الحقوق والحريات التي من أبرزها الحق في الحياة الكريمة والتي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بتوفير الشغل لطالبيه. إنّ ما يهمّ هذه البدائل الرجعيّة والتي تعتزم خوض غمار الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة لا يهمّها سوى الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها المتناقضة جوهريّا مع مصالح الجماهير الشعبية.
لقد تقلّد الباجي قايد السبسي رئاسة الحكومة الثانية بعد الانتفاضة ولم يعط أهميّة للجهات المهمّشة التي مازالت إلى حدّ الآن تعاني من الفقر والبؤس الذي ظلّ ينخرها، كما ازدادت نسب البطالة لدى الشباب وارتفعت نسب الجريمة وانتعش اليمين الديني خاصّة التكفيري وأصبح يهدد الحريات العامة والخاصة، أمّا المرزوقي فقد تحمّل مسؤولية الرئاسة طيلة أكثر من ثلاث سنوات تميزت بمزيد تفقير الجماهير عبر سيطرة المضاربين وعصابات التهريب على قوتهم اليومي ممّا نتج عنه الارتفاع المهول في أسعار المواد الأساسية والخدمات (الحليب، السكر، الطماطم، الزيت النباتي، المشروبات الغازية، المحروقات، الخضر والغلال، الماء والكهرباء وغيرها) مع تفشي العديد من الأمراض والأوبئة التي خلنا أنفسنا وأنّنا تخلصنا منها منذ عشرات السنين وإلى الأبد فإذا بها تطلّ عليها برأسها من جديد، إضافة إلى تنامي العصابات الإجرامية المتكونة من خريجي السجون الذين تمتعوا بالعفو الرئاسي، هذه العصابات التي امتهنت السطو على الأملاك الخاصة لصغار الفلاحين وغيرهم.
إنّ الجماهير الشعبيّة غير مجبرة اليوم على مساندة أحد المترشّحيّن أو مناصرته حتّى لا تكون وقودا للحرب الدائرة بينهما من أجل كرسيّ الرئاسة، بل هيّ مدعوّة إلى مواصلة نضالاتها لتحقيق أهدافها الحقيقيّة التي رسمتها عبر شعاراتها إبّان الانتفاضة وأهمّها "الشعب يريد إسقاط النظام" و"شغل، حريّة، كرامة وطنيّة" وغيرها من الشعارات وهذا لن يتمّ إلاّ بمزيد رصّ صفوفها وتجاوز كلّ المناورات والمؤامرات التي تحاك ضدّها والتي تعمل على تشتيت قواها عبر خلق نزاعات وصراعات جهويّة وعروشيّة مقيتة والحسم بصفة جديّة في أعدائها.
-----------------------------
طريق الثّــورة، ديسمبر 2014