ركزت العديد من الأحزاب السياسيّة ومن يسمّون أنفسهم "المستقلّين" في حملاتهم الانتخابيّة سواءً التشريعيّة منها أو الرئاسيّة على جملة من الوعود الراميّة إلى إيجاد حلول جذريّة للمشاكل التي تتخبّط فيها الطفولة باعتبارها نواة المستقبل لغرض حمايتها من الفقر والبؤس والتشـــرّد حتّى تنفتح أمامها أبواب الأمـــل على غد أفضل يجنّبها ما تتعرّض له يوميّا من انتهاكات متعدّدة الأوجه ومن استغلال فاحش ولإعدادها الإعداد الجيّد لتحمّل مسؤولياتها مستقبلا.
غير أنّه وبانتهاء تلك الكرنفالات الانتخابية والخطب الرنّانة وصدور نتائجها استفاق الحالمون من سباتهم على حقيقة مرّة حين أيقنوا فعليّا أنّ وضعهم يزداد بؤسا من يوم لآخر وأنّ تلك الوعود التي جعلت أحلامهم تتّخذ ألوانا ورديّة لم تكن سوى وعود زائفة وأن تلك الشعارات الرنّانة لم تكن سوى كلام للتسويق لا للتطبيق، فكانت صدمتهم أقوى وغيّرت نظرة العديد منهم للحياة لتزداد قتامةً في عيونهم وأصبح البعض منهم غير قادر على الإقبال عليها ورافضا للاستمرار فيها ممّا أثّر سلبا على نفسيتهم فجنح البعض إلى الانزواء رافضين التعايش مع محيطهم الأمر الذي دفع بالعديد منهم إلى وضع حد لحيـاتهم عبر الانتحار، فخلال سنة 2014 تشير الإحصائيّات إلى أنّ 18 طفلا قد انتحروا من بينهم 12من جنس الاناث، وقد استمرّ هذا النزيف على مدى الأشهر الأولى لسنة 2015.
كما أنّ هذا الوضع البائس الذي تعيشه الطفولة خاصّة بالنسبة للمنقطعين عن الدّراسة في سنّ مبكّرة نتيجة لعدم قدرة عائلاتهم على توفير مستلزماتها ومصاريفها أو بسبب بعد المدرسة عن مقر سكناهم أو لغياب السند العائلي دفع بالعديد منهم إلى الولوج المبكر لعالم الجريمة والانحراف سواءً بتعاطي المخدرات والكحول كحلّ للهروب من واقعهم المرير ونسيان معاناتهم ولو لبعض اللحظات أو السويعات أو بالانخراط في شبكات الدّعارة والسرقة أو الالتجاء إلى القيام بكل الأعمال المهينة والتشرد في شوارع المدن والقرى والتسوّل.
لقد تسبّب انقطاع آلاف الأطفال سنويّا عن الدّراسة في هجرة العديد منهم لعائلاتهم أو الهروب من مراكز الإيواء للانضمام لقوافل المتشردين الذين يملؤون الشوارع لتتلقفهم أيادي المنحرفين والسماسرة لاستغلالهم في بيع المسروقات والسلع المهرّبة أو في ترويج الممنوعات، كما يكونون عرضة للعنف الجنسي (290 حالة تم الإبلاغ عنها سنة 2014 دون احتساب مئات الحالات الأخرى التي بقيت طيّ الكتمان لأسباب مختلفة منها ما هو اجتماعي ويتصل بالخوف من الفضيحة أو الخوف من ردّة فعل المجرم).
وممّا زاد الطين بلّة، تكاثر الشركات الوهميّة (المختصّة في الإيهام بتوفير عقود التشغيل) والتي تملأ إعلاناتها يوميّا صفحات الجرائد دون رقيب، والتي أمعنت في استغلال الأطفال والتحيّل عليهم بكل الطرق مما أدّى إلى تنامي ظاهرة المتاجرة بهم. ففي شهر أفريل 2015 مثلا تمّ العثور على حوالي 14 فتاة تتراوح أعمارهنّ بين 14 و15 سنة في شقّة أعدّها لهن أحد السماسرة للإقامة بها إلى حين توفير الوثائق اللازمة واستيفاء التراتيب الضروريّة لتسفيرهنّ إلى سوريا للالتحاق بصفوف التكفيريين، وبالطبع ستكون مهمتهن تلبية الطلبات الجنسيّة للإرهابيين تحت يافطة جهاد النكاح والحال وأنه -حسب تصريحات الفتيات- قد كنّ يبحثن عن عقود شغل كخادمات في المنازل ولم يَدُرْ بخلدهنّ أنّه سيتم إرسالهنّ إلى جبهات القتال. فالسماسرة يستغلون الوضع البائس للأطفال والفقر الذي يحاصرهم من كل ناحية لبيعهم دون علم مسبق منهم لمن يدفع أكثر خاصة بالنسبة للفتيات صغيرات السنّ.
وإذا كانت الطفولة مستغلّة من قبل السّماسرة والمنحرفين في السّابق، فإنّ دخول الظلاميين على الخط خلال السنوات التي عقبت انتفاضة 17-12-2010 رفّعـت من وتيـرة هذا الاستغلال بدءً بالزواج العـرفي بالقاصرات أو ما يسمّى الزواج الشرعي وإجبارهنّ على مرافقة أزواجهنّ خارج البلاد أو تركهن يجابهن مصاعب الحياة صحبة أطفالهنّ والذي كان من نتائجه المباشرة ارتفاع عدد الولادات خارج إطار الزواج والمقدّرة بـ 1500 ولادة سنويّا، وصولا إلى احتلال العديد من الجوامع واستغلال هذه الأماكن لإقامتهم خاصّة بالمناطق الفقيرة وتمكنهم من التأثير على العديد من الأطفال عبر بث سمومهم وتجهيزهم ليكونوا مشاريع قنابل موقوتة معدّة للتدمير والتخريب والقتل يتمّ إرسالها سواء إلى العراق أو سوريا أو ليبيا إذ يتمّ الزج بأغلبهم في أتون النزاعات والحروب الدينيّة والعرقية. إنّ الاستراتيجيا التي يتّبعها التكفيريون في تعاملهم مع الطفولة هي السعي للسيطرة على عقول الأطفال، ولهذا الغرض احتلوا العديد من الفضاءات العامة والمحلات خاصّة مقرات الشعب الدستورية وقاموا بتهيئتها وتأثيثها لتكون مدارس قرآنية ورياض أطفال يتمّ تسييرها بطرقهم الخاصة في اتجاه فرض نمط المجتمع الذي يطمحون لتركيزه كبديل عن المجتمع الحالي عبر الفصل بين الذكور والإناث وفرض اللباس الطائفي على البنات والأطفال وتحريم الاختلاط بين الجنسين مع تركيزهم على ثقافة الموت وعذاب القبور وتكفير المخالفين لمعتقداتهم وأفكارهم والسعي لإقناع هؤلاء الأطفال بعدم الالتحاق بالمدارس الحكومية أو الخاصة ورفض التعليم الحالي باعتباره يحرض على الكفر والإلحاد. وبذلك يساهمون في تغذية الأمية المستفحلة في المجتمع لأنّ إمكانيّة السيطرة على عقل الأمّي سهلة.
إنّ سعي التكفيريين إلى السيطرة على عقول الأطفال الصغار وإقناعهم بصحة أفكارهم وتوجيههم لخدمة مخططاتهم يمثل إجراما في حق الطفولة التي كبرت معاناتها وازداد وضعها الاجتماعي والاقتصادي سوءا.
غير أنّ معاناة الطفولة لم تقف عند هذا الحدّ، بل تواصلت عبر العديد من الأوجه حتّى بالنسبة للذين أسعفهم الحظّ لمواصلة دراستهم سواء جراء البرامج التعليميّة المكثفة والتي لا تتماشى مع طاقة الطفل في استيعاب كل الدروس أو الأدوات المدرسيّة والكتب والكراسات التي يحملها التلميذ يوميّا والتي يتجاوز وزنها قدراته الجسمانيّة، إلى جانب وسائل النقل القديمة والتي تسببت في العديد من المآسي إذ سجلت حوادث مروريّة راح ضحيتها تلاميذ المدارس نتيجة لقدم هذه الحافلات التي تستعمل في نقلهم وعدم تعهّدها بالصيانة اللازمة، وكذلك نتيجة لانهيار أسقف بعض قاعات الدراسة، إلى جانب الحوادث التي يتعرضون لها عند خروجهم من مدارسهم التي تفتقر لسياج يحميهم والحال أنّ أبواب العديد منها تفتح مباشرة على الطريق العام، إضافة لحالات التسمّم التي طالتهم جراء استهلاك بعض المواد الغذائية الفاسدة بمدارسهم أو تعرّضهم للأمراض الوبائيّة مثل الجرب والبوصفّير (التهاب الكبد الفيروسي صنف جيم) الذي طال العديد من المدارس مثل الرقاب من ولاية سيدي بوزيد ونابل وقفصة وبوعرقوب وحامّة قابس وهو مرض ينتج بالخصوص عن شرب المياه الملوّثة مع الإشارة إلى أنّ العديد من القرى والأرياف والمدارس الموجودة بها تفتقر للماء الصالح للشرب .
إنّ السلطة الحاكمة، وحسب ما ينصّ عليه دستورها، هي الضامنة لحقوق الطفل خاصة فيما يتصل بالتعليم والصحة والنقل والوقاية من المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها الطفولة. وعليه فإنّ طرق التعامل مع الأطفال هي السبب في معاناتهم اليوميّة وفي فقرهم وبؤسهم نتيجة تجاهل الدّولة لمعاناة الطفولة التي تتطلب تأطيرا خاصّا وإحاطة دائمة ورعاية مستمرة حتّى تنشأ في ظروف حسنة تجنّبها مخاطر الانحراف والتشرّد. فمن أوكد الواجبات توفير الشروط الملائمة للدراسة بالمنشآت التعليميّة التي يجب أن تتوفر فيها فضاءات تحتضن التلاميذ في أوقات فراغهم وكذلك النوادي لصقل مواهبهم مع تمكينهم من التغذية السليمة والصحية داخل مدارسهم و توفير وسائل النقل السريعة والمريحة لنقلهم وكذلك الرعاية الصحية الضروريّة والمجانيّة، إضافة إلى العمل على تحسين الظروف المعيشية للكادحين وتشجيعهم على إلحاق أبنائهم بمؤسسات التعليم العمومي مع المراقبة المستمرة للأطفال وتأطيرهم والاستماع إلى مشاغلهم وفرض الدراسة حتى سنّ السادسة عشر والعمل على إرجاع المنقطعين قبل هذه السن إلى دراستهم وحلّ مشاكلهم التي دفعتهم إلى مغادرة مدارستهم . لكــــــــن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل تمتلك الدولة القائمة حاليا القدرة والإرادة لحل المشاكل التي تتخبّط فيــها الطفولة ؟