
في ظل تأزّم الوضع الاقتصادي والاجتمـــــاعي والسياسي في تونس نتيجة عجز السلطة على إيجاد حلول لمشاكل الكادحين، وفي ظلّ اكتشاف الشعب لزيف تلك الحملات الانتخابية التي وعدت خلالها أحزاب النظام بتحسين الوضع المعيشي ظهرت على سطح الأحداث صراعات عديدة سواءً بين مكوّنات الائتلاف الحاكم أو في صفوف بعض الأحزاب لعلّ أهمّها نداء تونس الذي تصاعدت وتيرة صراعاته الداخلية لتظهر للعلن وتتّخذ العديد من الأشكال وصل الأمر فيها إلى استعمال العنف والاستنجاد بالمليشيات وهو ما يذكرنا بالأسلوب المتّبع من طرف الدساترة سابقا ممّا زاد في كشف الوجه الحقيقي لهذا الحزب الذي يمثّل اليمين الليبرالي وطبيعة قياداته المتشدقة بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان والتي بيّنت ممارساتها اليوميّة وصراعاتها الداخليّة أنّها لا تؤمن بهذه الشعارات التي رفعتها بل استعملتها مطيّة للوصول إلى السلطة. لقد سعت هذه القيادات حال وصول حزبها للسلطة وحيازتها لأغلبية نيابية الدخول في خصومات متعددة لا علاقة لها بمشاغل الشعب عوض السعي لحل مشاكل ناخبيها المتفاقمة وهو ما يؤكد أنّ تلك القيادات لم تكن في يوم ما حليفة للكادحين وأنّ مجرد ترديدها لبعض الشعارات وإطلاقها لبعض الوعود إبان الحملات الانتخابية لم يكن سوى أسلوب للضحك على الذقون وطريقا للوصول لأهدافها التي رسمتها للسيطرة على السلطة واقتسام الغنيمة فيما بينها، والصراع الدائر بينها حاليا لا يخرج عن هذا الإطار مما أدى إلى تقسيم هذا الحزب الذي فقد بمقتضى ذلك أغلبيته النيابية التي آلت لحركة النهضة وما سينجر عن ذلك من إمكانية الإطاحة بالحكومة الحالية وتشكيل ثانية برئاسة نهضاوية متى رغب راشد الغنوشي وأسياده في ذلك.
و رغم نفي العديد من قيادات النهضة لمثل هذه السيناريوهات، إلاّ أنّ الوقائع اليوميّة تؤكد ذلك خاصّة فيما عرف بـ"معركة المساجد" التي انطلقت بداية شهر أكتوبر 2015 و كان مسرحها جامع "سيدي اللخمي" بمدينة صفاقس على خلفية قيام وزارة الشؤون الدينية بعزل العديد من الخطباء والأئمّة بسبب خطابهم المتشدد ومساهمتهم بصفة مباشرة أو غير مباشرة في تسفير الشباب والتحاقهم بالمجموعات التكفيرية خاصة في سوريا من خلال دعواتهم إلى "الجهاد"علما أنّ العديد من الذين تمّ عزلهم ينتمون لحركة النهضة أو قريبون منها سياسيا وعقائديا.
لقد عبّرت في البداية العديد من قيادات هذه الحركة عن عدم رضاها عن السياسة التي سلكها وزير الشؤون الدينية إذ نبّه راشد الغنوشي رئيس الحركة بتاريخ 17-09-2015 إلى أنّ حركته تعارض سياسة وزارة الشؤون الدينيّة في عزل الأئمّة بشكل عشوائي مستدركا بأنّ النهضة ليست ضدّ شخص وزير الشؤون الدينيّة بل تعارض سياساته، وقد نتج عن هذه المعارضة تأجيج الوضع داخل المساجد إذ احتدّ الخلاف بين وزارة الشؤون الدينيّة والأئمّة المدعومين من حركة النهضة ووصل الأمر بهم إلى إرغام الأئمّة الذين عهدت لهم إمامة صلاة الجمعة بجامع اللخمي على مغادرة المنبر وإبطال الصلاة على مدى أربعة أسابيع متتالية ممّا دفــع بمصالح الوزارة إلى إغلاقه في الأسبوعين الأول والثاني من شهر نوفمبر وعدم إقامة صلاة الجمعة به لينتقل الصراع إلى الجامع الكبير بالمدينة العتيقة بصفاقس حيث رفع مناصرو النهضة شعارهم الاخوانى "الشعب مسلم ولن يستسلم" لاستجداء عطف المصلين وإيهامهم بأن الهدف من هذا الصراع هو الدفاع عن الدين الإسلامي أو بالأحرى هي معركة بين المسلمين وغير المسلمين وهي المعاني التي يمكن استخلاصها من بيان الحركة: "تعبّر الحركة عن رفضها لسياسة الانتقام والطّرد العشوائي التي ينتهجها السيد وزير الشؤون الدينيّة وتلفت نظره إلى أنّ هذه السياسة إذا تواصلت ستتحوّل إلى أداة الاستقطاب الرئيسيّة للإرهاب ومغذّيا لآلة الدعاية الإرهابيّة التي تعتمد على إقناع الشباب أنّهم في مواجهة دولة معادية للإسلام والدين كما تتسبّب هذه السياسة الموروثة عن الديكتاتوريّة في توتير الأجواء في أماكن العبادة وزرع العداوة بين المواطنين"، بمعنى أدقّ، فان الحركة تحذّر من ناحية وتخلي مسؤوليتها من ناحية أخرى ممّا وقع وسيقع مستقبلا وتحمله لوزير الشؤون الدينيّة إذ جاء في نص نفس البيان ما يلي: "على المستوى الديني تعطي قرارات الطرد التعسّفي التي انفرد بها السيد وزير الشؤون الدينيّة، والتي استهدفت عشرات الأئمّة من الذين عرفوا باعتدالهم، انطباعا أنّ الأمر يؤشّر إلى عودة التصفيات الاديولوجيّة، في تعارض تام مع مصلحة البلاد وما تقتضيه من وحدة وتجميع للصفوف خاصّة على المستوى الديني الذي يعتبر عنوان الصراع الرئيسي مع الإرهاب الذي يهدّد بلادنا". كما اعتبر نور الدين الخادمي وزير الشؤون الدينية السابق وأحد قيادات النهضة بتاريخ 19-09-2015 "أنّ الوزارة عمدت إلى إغلاق مساجد ليس لها علاقة بالإرهاب وعزلت أئمّة مشهود لهم بالنزاهة والمقبوليّة الشعبيّة". مضيفا بأنّ المسألة لها توظيف سياسي إذ قال: "إنّ الظنّ في البداية أنّ المسألة إجرائيّة تعبّر عن رأي شخص أو حالة ما، غير أنّ الشواهد منذ شهرين تشير إلى توظيف سياسي حزبي ضدّ أئمّة حسبوا على الثورة السلميّة التونسيّة وكان لهم دور في تأطيرها". بينما اعتبر بشير بن حسن وهو أيضا قريب من النهضةان هناك: "أ محاولة لتكميم الأفواه الحرّة ومواصلة لسياسة بن علي الديكتاتوريّة في محاربة الإسلام ودعاته". فيما أعلن علي لعريّض أمين عام حركة النهضة بأنّ ثمّة غضبا حقيقيّا داخل النهضة على الحكومة بينما أكّد عبد اللطيف المكّي بأنّ عمليّة عزل الأئمّة المحسوبين على النهضة تتمّ بطريقة تعسّفيّة ودون تبرير.
لقد حاولت النهضة من خلال هذه التحذيرات والتصريحا الضغط على وزير الشؤون الدينيّة ومن ورائه الحكومة للتراجع في قراراتها القاضية بعزل ائئمة اخوانيين ، إلاّ أنّها لم توفّق في مسعاها وتمسكت وزارة الشؤون الدينيّة بقراراتها، بل إنّها مارست هي بدورها الضعط عندما أحالت إمام جامع اللخمي وبعض معاونيه على القضاء بشبهة فساد مالي الأمر الذي أدّى إلى إيقافهم لعدّة أيام ليطلـــــق سراحهم بعد ضغوطات مارستها الحركة التي لم تبق مكتوفة الأيدي بل أعلنت العصيان وقرّرت رفض كل قرارات وزير الشؤون الدينية وأوكلت مهمّة قيادة هذه المعركة للمنظمّة التونسيّة للشغل التابعة لها والتي لم ينخرط فيها سوى الأئمّة النهضاويين والتي أصدرت بيانا بتاريخ 05-11-2015 عبّرت فيه عن استعدادها للتصدّي بكلّ الوسائل لتهديد وزير الشؤون الدينيّة وحمّلت مسؤوليّة كلّ ما سيحدث لرئيس الحكومة ولوزير الداخليّة، كما دعت رئيس الجمهوريّة والوزير الأوّل إلى التدخّل السريع لقطع الطريق أمام "الجهة السياسيّة الاستئصاليّة المفضوحة التي تقف وراء كلّ قرارات عزل الأئمّة والتي لها رغبة جيّاشة في بثّ الفوضى والاحتقان والفتنة داخل مدينة صفاقس الآمنة"، والمقصود بهذه الجهة السياسيّة الاستئصاليّة هو ما عبّرت عنه حركة النهضة بـ"بقايا اليسار الاستئصالي" في إشارة واضحة لشق محسن مرزوق بنداء تونس والذي استقال العديد من عناصره من هذا الحزب لتكوين حزب جديد
و بناءً على تهديداتها، نفّذت هذه المنظمة مسيرات مندّدة بقرارات وزير الشؤون الدينيّة وكذلك وقفات احتجاجيّة أمام قصر الحكومة ومجلس النواب وتحـركات أسموها بـ"جمعة الغضب" مقدّمة بعض المقترحات لحـــلّ ما سمّي بـ"أزمة المساجد " مضمونها إسناد عملية اختيار إمام جامع اللخمي للمصلين دون سواهم .
و في ظلّ عدم حصول الموافقة على المقترحات المقدّمة من المنظمة التونسيّة للشغل وتمسك وزارة الشؤون الدينيّة بموقفها، عبّرت حركة النهضة وقياداتها من جديد عن عدم رضاها على السياسة المتبعة من طرف وزير الشؤون الدينيّة واستعدادها للموافقة أو دعم أيّ تحوير وزاري يتمّ وهي دعوة غير معلنة من طرفها لتغيير الوزير وهو ما تمّ فعلا ضمن التحوير الوزاري الأخير.
ولمزيد الضغط وتأجيج هذا الصراع أوكلت لأنصارها مهمّة التصدي لأيّ إمام يتمّ تعيينه بجامع اللخمي وعدم فسح المجال له لإقامة صلاة الجمعة التي تمّ تعطيلها على مدى أربعة أسابيع متتالية ممّا أدّى إلى إغلاق هذا الجامع . ورغم تعرض البعض منهم إلى الإيقاف وإطلاق سراحهم بعد إمضائهم على التزامات بعدم التعرض للأئمّة الخطباء، فقد انتقلوا بهذه الحركة الاحتجاجية إلى جامع المدينة العتيقة في صفاقس، بينما توعّد العديد من المصلين من أتباع النهضة والتيارات الدينية الأخرى بالتصعيد ونقل هذه المعركة إلى جهات ومساجد أخرى.
و في الوقت الذي انتظرت فيه وزارة الشؤون الدينيّة والحكومة من ورائها خطابا يدعو للتهدئة والدعوة لاحترام قراراتها والالتزام بها، أكد القيادي بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي أنّ الحركة ستستعمل كلّ المنابر للدفاع عن قضيّة تشغل الرأي العام بمعنى آخر فان الحركة ستواصل احتجاجها لإسقاط قرارات وزارة الشؤون الدينيّة وإرجاع أئمّتها المعزولين واسترجاع المساجد التي خرجت عن هيمنتها خاصة وأنّ سيف الديـــــن مخلــــــوف محامي نور الدين الخادمي وبشيــر بن حسن سعى بــدوره إلى زيادة تأجيـــج الوضع عبر تصريحات ناريّة اعتبر من خلالها "أنّ وزير الشؤون الدينيّة عثمان بطّيخ يواصل مهمّته التي بدأها مع بن علي بهدف تجفيف المنابع الدينيّة"، كما أكّد "أنّ الحملة ضدّ الأئمّة هدفها سياسي بالأساس ومتمثّلة في إرجاع المساجد إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الثورة كأوكار للمخبرين ولأعوان البوليس السياسي في سبيل مراقبة المصلين ورفع تقارير أمنيّة بتحركاتهم ومضمون خطبهم لوزارة الداخليّة ممّا يجــعل وزارة الشؤون الدينيّة خليّة أمنيّة وبوليسيّة".
فلماذا كلّ هذا التشبّث بالمساجد ؟
من المعلوم أنّ المساجد ونظرا للجموع الغفيرة التي ترتادها خاصّة بمناسبة صلاة الجمعة، مثّلت المكان الملائم لتمرير السياسات المتّبعة من طرف الأنظمة الماسكة بزمام السلطة أو الأحزاب التي تمكنت من السيطرة عليها، فالتيارات والأحزاب والحركات الدينية وظّفت المساجد منذ نشأتها في الدعاية والتحريض وتجميع الأموال وأصبحت بمثابة مقارّ رسميّة لها يتمّ تقسيمها إلى أماكن لإقامة الصلاة وأخرى للتدريس وحلقات التكوين النظري والاجتماعات المضيّقة، إلى جانب استغلال صلاة الجمعة مثلا لجمع التبرعات وتشغيل بعض الاتباع. كما وصل الأمر إلى استغلالها في السّكن وإخفاء السلاح .
إنّ حركة النهضة تدرك جيّدا أهميّة المساجد في عملها خاصة ما يتصل بأهدافهــا الإستراتيجيّة غيـــر المعلنة والمرتبطة بمسألة "التمكيــن" أي التوصّل للسيطرة على الحياة العامّة وعلى مفاصل الدولة بكامل أجهزتها حتى تتمكن من الاستفراد بالحكم لتمرير مشاريعها المرتبطة بالأساس بدولة الخلافة وتطبيق الشريعة . أمّا أهدافها الآنيّة فهي الانتخابات البلديّة التي من الممكن أن تتمّ في النصف الثاني من سنة 2016، وعلى هذا الأساس تسعى هذه الحركة للاستعداد جيّدا لهذه المعركة و اِفتكاك المرتبة الأولى من النداء الذي بدأت صفوفه تتآكل وتتفتّت نتيجة للصراعات المتواصلة داخله والسيطرة على أكبر عدد ممكن من المجالس البلديّة والتي ستساعدها على التحضير للانتخابات التشريعية والرئاسيّة القادمة.
والاستعداد الجيّد بالنسبة لها مرتبط بالأساس بالمساجد التي توفّـر لها المجال الفسيح لتمرير دعايتها والسيطرة على عقول الجموع الغفيرة للمصلين والتي لا يمكن لها بأيّ حال من الأحوال أن تتمكن من تجميعها خارج هذه الفضاءات وهو ما دفع بها إلى إعلان النفير العام حين أحسّت أنّ هناك لاعبا جديدا يسعى للاقتراب من ملعبها واللعب في مربعها ممّا سيؤدّي إلى الحدّ من سيطرتها على المساجد وعلى عدد لا بأس به من جموع المصلين، كما سيقلّص أيضا مواردها الماليّة المتأتيّة من التبرعات ممّا يمثّل لها عائقا في إيصال دعايتها الانتخابية مستقبلا ويمكن أن يساهم ذلك في حرمـــــانها من العديد من الأصوات .
لقد فهم اليمين الليبرالي بدوره أهميّة هذه المساجد والخطر الذي تمثله إن بقيت كلها تحت سيطرة اليمين الديني واستغلّ فرصة "مقاومة الإرهاب" و"الخطاب التكفيري" لتحجيم سيطرة النهضة على أهمّ المساجد والحدّ منها بل وافتكاكها بتكليف أئمّة وخطباء موالين له ممّا يجعل هذه "المعركة" عبارة عن معركة نفـــوذ إذ يحاول كلّ طرف الحدّ من قوّة الطرف الآخر، كما يحلينا ذلك إلى حقيقة أولى مفادها أنّ المســـاجد لا تستعمل للعبادة فقط كما يحاولون إيهامنا بذلك بل جعلت لممارسة السياسة بوجهيها الدعائي والتحريضي والسيطرة على عقول مرتاديها وتوجيههم حسب مصالح من يتولّى القيام بتلك المهمّة. أمّا الحقيقة الثانية التي يمكن أن نخلص إليها هي أنّ هذه "المعركة" غير مرتبطة بمشاغل الجماهير الكادحة التي تعاني الأمرّين بل هي مرتبطة بمصالح أحزاب النظام التي تسعى من خلالها إلى ترسيخ أقدامها والظفر بأكبر جزء ممكن من الغنيمة الأمر الذي يفرض على الثوريين فضح طبيعة تلك المعركة وكشف حقيقتها لمجموع الكادحين .
------------------------------
طريــق الثّــورة، جـانفي 2016