top of page

ملفّ انتفاضة المعطّلين في تــونس: الجزء الثّـاني


اندلعت انتفاضة المعطّلين في تونس في 16 جانفي 2016 إثر استشهاد الشاب رضا اليحياوي بعد عمليّة الانتحار التي أقدم عليها في مدينة القصرين فانتشرت الاحتجاجات في جهات عديدة من البلاد. وقد اهتمّت طريق الثّـورة بهذه الانتفاضة في عددها الأخيـر متتبّعة مجرياتها وتفاصيلها اليوميّة، وهـا أنّنا في هذا العدد نستكمل الجزء الثّاني من هذا الملفّ بالتطرّق إلى كيفيّة تعامل السلطة مع احتجاجات المعطّلين عن العمل.

1- التشويه الرسمي والإعلامي:

منذ الأيّام الأولى لانتفاضة المعطّلين سارعت وسائل *الإعلام الرّسميّة والخـاصة أيضا إلى شنّ هجوم مضادّ للانتفاضة ولجموع المحتجّين في مختلف أنحـاء البلاد. ويدلّ هذا الهجوم على أنّ أوامــر عليا قد صدرت الى أجهزة الإعلام الرسمية التي تدّعي الدّولـة أنّها ملك عمومي وكذلك الى أجهزة الإعلام الخاصة المأجـورة تذكّر بالحملات التي كانت تشنّها هذه الأجهزة زمن بن علي. و محتوى هذه الأوامر "شــوِّهــوا وشوِّهــوا وشوِّهــوا !!! "، فما كان من تلك الوسائل بمختلف أصنافها وأنواعها أن سخّرت كلّ طاقاتها وإمكاناتها لتخرج أخبـارها بلـون واحد وتحت عنوان واحد: "مخرّبــون، منحرفــون، يسرقـون، يقتحمون..."، وتناقلت وسائـل الإعلام العالمية هذه الأخبـار تحت نفس الألـوان ونفس العنـاوين فتحوّلت الإذاعات والمحطّات التلفزية والصحف الورقية والالكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي إلى ميدان حرب يمارس على أرضه النظام ومرتزقته وأسياده هجومهم العنيف الذي امتزجت فيه السياسة بالأخـلاق، هدفهم الأوحـد هو إخمـاد نـار الانتفـاضة.

و قد كانت الرّجعيّة تهدف من خلال هذا الهجوم الإعلامي إلى القضاء على جذوة الانتفاضة للحفاظ على سيادتها وهي التي تدرك أنّ انتشار اللّهب يهدّد هذه السيادة بالسقوط في ظلّ أزمـة النّظام التى عجز على إيجاد حلول لها (أزمة التصدّعات أو ما عرف بـ"الشقوق" داخل الحزب الحاكم الأوّل والأزمة بين الأحزاب الحاكمة الأربعة وخصوصا الحزبين الرّئيسيين في الحكم) وهي أزمـة إذا استعر لهيب الانتفاضة أكثر فإنّها ستعجّل بتهاوي الحكومة الجديدة التي لم يمر آنذاك إلاّ بضعة أيّام عن الإعلان عنها وقد تعجّل الانتفاضة بسقوط الأجهزة التنفيذية الأخرى وحتّى التشريعية التي أنجبتها انتخابات الفساد المالي والإعلامي وتدخّل القوى العالمية والإعلاميّة. وقد فضح الارتباك الكبير الذي ظهر عليه بعض ممثّلي السلطة التنفيذيّة هذا الضعف من خلال التصريحات والتصريحات المضادّة.

و إذا كان هذا الهجوم مبرّرا بالنسبة للسلطة الرّجعيّة، فإنّ كثيرا من الأطراف التي تدّعي أنّها معارضة وأنّها تمثّل الشعب من خلال مشاركة بعض أعضائها في البرلمـان انسـاقت في بثّ نفس الخطاب الرّسمي بما فيه من سموم والدّفاع عنه تحت يافطة الحفاظ على مؤسسات السيادة ومواجهة الخطر الإرهابي وساهمت بدورها في هذا الهجوم المسعور ضدّ احتجاجات المعطّلين عن العمـل والكادحين وعموم المحرومين من الثّـروة وخدمت أهداف الرّجعيّة الحاكمة وساهمت في الحفاظ على سيادتها.

عيّنة من عناوين بعض وسائل الإعلام:

- قفصة: عدد من المنحرفين يغلقون طريق الرابطة بين قفصة وكل من تونس وصفاقس

- رغم حظر التجول.. منحرفون يقتحمون المستودع البلدي بالعالية

- القيروان.. منحرفون يحاولون نهب مزرعة

- حي التضامن: منحرفون يحاولون اقتحام محلات تجارية ومقاهي.. والأمن يتصدّى لهم

- بالصور: منحرفون يسرقون مخازن تابعة للديوانة بالقيروان

- تونس: منحرفون تحت تأثير حبوب الهلوسة يبثون الفوضى

إيقاف 9 أشخاص بصدد حفر نفق لدخول فضاء تجاري

أمّا على المستوى السياسي الرّسمي، فقد هاجمت السلطة وأحزابها جموع المحتجّين رغم الإيهـام بالتفريق بين ما تمّت تسميته بـ"الاحتجاجات السلمية" من جهـة وبين "عمليات التخريب والنهب والسلب والإرهاب" من جهة ثانية، وقد أعطى هذا الهجوم الضّوء الأخضر للأجهزة البوليسية لترفع من مستوى قمعها، ولم تترك الحكومة ممثلة في رئيسها الفرصة تمرّ دون أن تنوّه بما قامت به تلك الأجهزة في حفظ النظام وفرض القانون وما "تحلّت به من رصانة وهدوء رغم أن الوضع كان حرجًا وخطرًا".

وتذرّعت السلطة وأحزابها في هجومها هذا بخطر اندساس الإرهابيين واستغلالهم للـوضع الأمني ليقوموا بتنفيذ عمليّاتهم، وكذلك اتّهمت المحتجّين بتشتيت جهود الأمن وحذّرت من استهداف مراكز الأمن والممتلكات الخاصة والعمومية. ودعت مقـابل ذلك الغاضبين إلى "الصّبر" في الـوقت الذي نفذ فيه صبر المعطّلين عن العمل وفئات واسعة من الطّبقات الكادحة، وقد تميّز خطابها أيضا بالارتباك الشديد في مواجهة الاحتجاجات الشعبيّة، فمرّة تعلن عن حزمة من الإجراءات في إطار سياسة الوعود سرعان ما يتمّ تكذيبها ثمّ يتمّ التصريح بعدم القدرة على تلبية مطالب المحتجّين وعدم امتلاك "عصا سحرية" وليتمّ توجيه الدّعوة إلى "الجميع" ليتحمّلوا المسؤولية لإيجاد حلّ للبطالة !!!. وبدا واضحا من خلال التصريحات المتضاربة أنّ الاضطراب قد بلغ أشدّه الأوساط الحاكمة وأنّه لا مفرّ من استعمال جميع الـوسائل المتاحة من أجل القضاء على الاحتجاجات وإخماد الانتفاضة خوفا من انهيار "الانتقال الديمقراطي" و"التجربة النموذجيّة التونسيّة".

2- القمع البوليسي:

جابهت قوّات البوليس الاحتجاجات الشعبيّة منذ الـوهلة الأولى لاندلاع انتفاضة المعطّلين عن العمل باستعمـال وسائلها القمعيّة المعتادة في محاولة منها لترهيب الجماهير المنتفضة وذلك بهدف إطفاء الحريق في القصرين قبل أن يتّسـع وأن تنتشر شرارته إلى مناطق وجهات أخــرى.

ولم تقتصر عمليّات القمـع على مواجهة الاحتجاجات في الشوارع وفي السّاحات العامّة وفي الأحياء والأزقّـة، بل امتدّت إلى المعطّلين عن العمـل الذين كانوا ينفّذون اعتصامات داخل المقرّات الرسمية الجهوية والمحليّة مثل مقرّات الولايات والمعتمديّات. وذلك رغم اعتراف السلطات الرّسميّة بمشروعيّـة تلك الاعتصامات وبسلميّتها على الأقلّ في الأيّـام الأولى للانتفـاضة. وقـد تصاعدت وتيرة الهجمـة القمعيّة مع تغيّر الخطاب الرّسمي ومع إطلاق العنـان للحملـة الإعلاميّة، وزيـادة على استعمـال الغازات المسيلة للدّمـوع والعصيّ، تمّت ملاحقة المحتجّين في الأزقّة والأنهج خصوصا داخل الأحياء الشعبيّة وحصلت مواجهات بين قوات البوليس وأبناء تلك الأحياء وترتب عن القمع سقوط عدد من الجرحى ومن المصابين بالاختناق ليس في صفوف المحتجّين فحسب وإنّما أيضا في صفوف متساكني تلك الأحياء خاصّة بسبب الاستعمـال المكثّف للغازات المسيلة للدّموع. وقد استقبل مستشفى القصرين في اليومين الأوّلين للانتفاضة عشرات المصابين.

و عمدت قوّات البوليس إلى فضّ الاعتصامات بالقـوّة وتعنيف المعتصمين لإخلاء مقرّات "السيادة"، ففي المزونة من ولايـة سيدي بوزيد تمّ يوم 25 جانفي 2016 اقتحام مقرّ المعتمديّة وتعنيف عدد من المعتصمين داخله انجرّ عنه إصابة عدد منهم بجروح نقلوا على إثره إلى المستشفى.

وشهدت مدينة جندوبة عمليّتا اقتحام في ليلتين متتاليتين، ففي ليلة 27 جانفي قامت قوات البوليس بفضّ اعتصام عمّال الآلية 16 باستعمال القوّة من داخل مقرّ الولايـة، وحصل اقتحام مماثل في الليلة السّابقة أيضا لنفس المقرّ لإخلائه وفك اعتصام المعطّلين عن العمـل.

واستغلّت تلك القوات إعلان حظر التجوّل والدّعـوات إلى تطبيق القـانون بحذافيره لتمارس تجاوزاتها تحت غطاء "القانونيّة" ومجابهة "المنحرفين" ولتصبّ حقدها ضدّ المحتجّين وغيرهم دون تمييز، وقد ارتكبت في هذا الإطـار فظائع لا مبرّر لها. ففي إحدى ضواحي مدينة صفاقس تعرّض الشاب منير العبدولي إلى التعنيف وذلك بعد أن خرج من منزله بعد 15 دقيقة من بدء تطبيق حظر التجول لاقتناء سجائر من احد جيرانه في نفس الحيّ الذي يقطنه، وفق ما صرّح به محامي المتضرّر فقد ضرب اعوان البوليس الشاب الذي كان يشغل سابقا منصب رقيب بالجيش كمَا قامُوا بإلقائه في حاوية فضلات أين قضّى ليلته قبل أنّ يتمكن جيرانه من التفطن إليه صباحًا . وهو في حـالة يُرثـى لها.

- الإيقــافات:

شنّت قوّات الأمن إبّــان الاحتجاجات حملة واسعة من الإيقــافات طالت أعدادا غير قليلة من المشاركين في الاحتجاجات. وقد تمّت هذه الإيقــافات تلبية للدّعـوة التي أطلقتها السلطات الرسمية وخصوصا وزارة الدّاخليّة والمتمثّلة في تطبيق قرار حظر التجوّل بكلّ حذافيره. غير أنّ الإيقــافات لم تشمل من خرقــوا هـذا القـرار وإنّمـا المشاركين في الاحتجاجات خلال النّهــار وحدث ان تمّ في بعض الجهــات إيقــاف عدد من لم تكن لهم علاقـة بالاحتجاجات أصلا.

لذلك، فإنّ مجموع الموقوفين كان كبيرا منذ اليـومين الأوّلين للشروع في تطبيق حظر التجوّل. فقد صرّح المتحدث الإعلامي لإدارة الحرس أنّ " هناك 1105 أشخاص تم إيقافهم في الاحتجاجات، من بينهم 582 شخصا تورطوا في أعمال سلب ونهب و523 شخصا خالفوا قانون حظر التجول الليلي الذي بدأ تطبيقه منذ يوم الجمعة الماضي"، وذلك إلى حدود 25 جانفي 2016.

وكــالعادة، فإنّ قوّات البوليس لم تتأخّر في استعمـال أساليبهـا القمعيّة عند القيــام بعمليّات الإيقـاف، وذلك من خـلال اللّجـوء إلى المداهمات وما تثيره هذه العمليّات من فزع وهلـع لدى عائــلات المستهدفيــن بالإيقـاف وممارسة العنـف الجسدي والعنف اللّفـظي من شتم وسبّ.

وهذه عيّـنة عن بعض تلك التّجاوزات التي حصلت في ولايــة زغـوان يوم 27 جـانفي 2016:

قامت قوّات البوليس في مدينة زغوان بإيقاف عدد من الأشخاص من منازلهم ومن وسط التحركات الاحتجاجيّة دون تمييز بين من شارك في الاحتجاجات ومن لم يشارك وبين من كسّر أو سرق وبين من لم يفعل أيّ شيء من ذلك.

وفي الفحص من ولايـة زغـوان، يوم 27 جانفي، أكّـد بعض الموقوفين أنّ شباب الفحص الذي سيمثل يوم 28 جانفي أمام وكيل الجمهورية على خلفية الاحتجاجات الأخيرة قد تعرّضوا للضرب والشتم والإهانـة ممّا أثّر على محاضر الأبحاث.

3- الملاحقات القضائيّة:

لعبت الأجهزة القضائيّة الدّور الموكول لها في خضمّ الهجوم على المنتفضين، فتمّ عرض عدد غير قليل من المحتجّين الموقوفين على المحاكم على خلفيّة المشاركة في انتفاضة المعطّلين عن العمـل والاحتجاج من أجل تحقيق مطالبهم المشروعة في التشغيل والتنمية والثّـروة. وهذه بعض العيّنات عن تلك المحاكمات في جهتي قفصة والقصريـن التي تفنّد ادّعاءات السلطات الرسميّة حول "حريّة الاحتجاج السلمي".

القصرين: تلقّى 12 نـاشطـا مـن بين الشبّان الذين شاركوا في الاحتجاجات التي شهدتها معتمديّة جدليان من ولايـة القصرين استدعاءات للمثول يوم الأثنين (7 مارس 2016) أمـام قاضي التّحقيق بالجـهة لتتمّ محـاكمتهم بتهمـة إيقـاف سير العمـل بالمعتمديّة.

التّهمـة الموجّهـة لهؤلاء الشبّـان تأتي على خلفيّة احتجاجات الجهة التي شاركت فيها فئات اجتماعيّة مختلفة وخصوصا المعطّلين عن العمـل في إطـار المطالبة بالحق في التشغيل والتنمية والثّـروة، وهي مطالب مشروعـة دفعت الأوضـاع الاجتماعيّة المتردّيـة لهذه الفئات الاجتماعيّة وواقـع التّهميش الذي تعرفـه هذه الجهة إلى رفعها.

مـرّة أخرى، تؤكّد السلطة أنّ لا حلّ لهـا في مواجهة الأزمـة المتفـاقمة سوى الحلّ الأمني والقضـائي عبر تجريم الاحتجاجات الاجتماعيّة قصد ترهيب الشعب ومنعه من ممارسة الحقّ في الاحتجاج والثّـورة.

قفصة: أصدرت المحكمة الابتدائية بقفصة يوم الخميس 24 مارس 2016 أحكـاما بالسجن في حق عدد من المحتجّين إبّان انتفاضة المعطّلين عن العمل، وكانت الأحكام كالتالي: السجن 8 أشهر لـ 9 من المتّهمين والسجن لمدة سنة ونصف ضد اثنين آخرين، كما قررت الإبقاء على شخصين في حالة سراح.

هذه الأحكـام جاءت على خلفيّة قيـام عدد من المحتجّين ببناء جدار اسمنتي على سكّة القطار تعبيرا منهم عن حقّهم في الشغل وفي الانتفاع بثروة الفسفاط.

وكانت قبل ذلك نفس المحكمة قد أصدرت يـوم الاثنين 14 مارس 2016 الحكم بعدم سماع الدعوى في حق 6 من المعطّلين عن العمل كانوا قد أوقفوا يوم الجمعة 11 مارس من مجموع 36 معتصما كانوا قد اجتازوا الحدود في اتّجـاه الجزائر.

الموقوفون هم من منطقة أم القصاب من معتمدية أم العرائس من ولايــة قفصة المطالبين بالتشغيل والتنمية.

------------------------------------

طريق الثّـورة، فيفري-مـارس 2016

 
 
 

الشعوب والانتخابات: قصّة حبّ قصيرة

تتزايد ظاهرة امتناع السكان عن المشاركة في التصويت في الانتخابات التي تجري في مختلف انحاء العالم. ولا تقتصر هذه الظّاهرة على المستعمرات...

bottom of page