تزداد أزمــــة الدّولــــــة التونسية اشتدادا، ولا يبدو أنّ هناك انفراجا يلوح في الأفق على الأقلّ على المدى القريب أو المتوسّط، وهي أزمة عميقة ما فتئت تتفاقم مع مرور الأعوام والأشهر والأيّام ذلك لأنّها مرتبطة بطبيعة هذه الدّولة منذ نشأتها من حيث تركيبتها الطّبقيّة وبرامجها ومشاريعها الاقتصادية والاجتماعيّة وارتباطاتها الخارجيّة. ولذلك كان تواتر الانفجارات الاجتماعيّة في عدّة مناسبات نتيجة مباشرة لهذه الأزمة الهيكليّة التي تغذّيها في كثير من الأحيان أزمات ظرفيّة تزيد في حدّتها ممّا يجعل الدّولة غير قادرة على تطويقها فيدفع الطّبقات الاجتماعيّة المفقّرة والمستغَلّة إلى الاحتجاج والانتفاض ردّا على تلك السياسات المعادية لمصالحها، وقد كانت أكثرها حدّة انتفاضة 17 ديسمبر غير أنّ عديد العوامل الذّاتيّة والموضوعيّة حالت دون تطوّرها إلى ثورة قادرة على تحقيق شعار إسقاط النّظام لذلك تمكّن حماة الدّولة في الدّاخل والخارج من إعادة ترميم النظام الرّجعي عبر إرساء "المسار الديمقراطي" وضرب المسار الثّوري.
ورغم هذا الانتصار الوقتي، فإنّ أزمة النظام التي اندلعت بسببها انتفاضة 17 ديسمبر لا زالت قائمة ومازالت بذلك مطالب المنتفضين من إرجاع الأراضي لأصحابها وتوزيع الثروة بالعدل والتنمية الجهويّة وغيرها من المطالب الوطنية والاجتماعية قائمة ذلك أنّ المسار الديمقراطي لم ينجح لا في تحقيقها ولا في القضاء عليها، وبالتّالي فإنّ البلاد مقبلة على انفجارات اجتماعيّة أشدّ إصرارا على تحقيق مطالب الحرية والعدل والأرض والثروة. فالأزمة تقترب شيئا فشيئا من الخروج عن السّيطرة، خصوصا مع احتداد الصّراع السّياسي الذي يتمظهر اليوم في استحالة تنصيب حكومة منذ أشهر وفي الخلافات بين مؤسسات النظام (البرلمان ورئاسة الدولة) بالرّغم من محاولات إخفائها وإنكارها وبين الأطراف السياسية الممثّلة للرّجعيّة وحتّى داخل الحزب الواحد وفي صفوف فريق الرّئيس نفسه. وفي ظلّ هذه الأزمة السياسيّة تتتالى الفضائح أو الاستقالات والإقالات المرتبطة بالحكّام وهي تعكس تضارب المصالح داخل المنظومة الحاكمة وبين أفرادها مقابل التّجاهل التّام للقضايا والمشاكل الأساسيّة التي يعاني منها الشعب والبلاد التي صنّفت من أكثر البلدان فقرا...
وإذا لم تجد تلك الأزمة طريقها إلى الحلّ حتى الآن لأنّ الشعب غير مهيّأ بعد لاستثمارها لصالحه، بسبب تشتيت اهتماماته وإلهائه عن قضاياه الرئيسيّة وتشتّت قوى الثّورة ممّا جعلها عاجزة عن إيجاد آليات الانصهار وسط الجماهير في الوقت الذي توجّه فيه الرّجعية والانتهازية لها ضربات موجعة. ورغم هذا الضّعف، يظلّ الحلّ بيد الشعب الذي يمكنه وحده أن يسطّر مرحلة جديدة إذا ما انتظم وسار في طريق الثّورة مصمّما على النصر والقضاء على الأزمة وأسبابها.